بسم الله الرحمن الرحيم
التصوف
الحمد لله العزيز ذي الجلال القديم الأزلي، الذي لا يوصف بالحركة والإنتقال، المنزه عن المكان والكيفية والنظير والمثال:" ليس كمثله شيء وهو السميع البصير،" المقدس عن النقائص والخلل، الذي خلص قلوب أوليائه من الخبائث والعلائل، وأيدها بالمعرفة والإجلال، فلا يزالون على الحق حتى يقتلوا المسيخ الدجال، ونشهد أن سيدنا ونبينا ومولانا محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى ءاله وأصحابه صلاة وتسليما يترادفان إلى يوم الجمع والسؤال.
أما بعد:
فإن أشد ما يحتاج إليه المسلم في هذا العصر الذي طغت فيه المادة...، هو العناية بالجانب الروحي، الذي أشار إليه الحديث الشريف بمقام الإحسان. "عن عبد الله بن عمر قال حدثني عمر بن الخطاب قال، بينما نحن عند رسول الله ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه ثم قال يا محمد أخبرني عن الإسلام قال أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت، قال فعجبنا منه يسأله ويصدقه قال أخبرني عن الإيمان قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت، قال فاخبرني عن الإحسان قال ان تعبد الله كانك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال فأخبرني عن الساعة قال ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال فاخبرني عن أماراتها قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان قال ثم انطلق فلبثت مليا ثم قال يا عمر أتدري من السائل؟ قلت الله ورسوله أعلم قال فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". رواية مسلم. ورواه أيضا البيهقي والنساني وأحمد وابن ماجة وابن خزيمة.
- في القرن الثاني وما بعده أقبل وجنح الناس إلى مفاتن الدنيا وتزهد بعضهم وأقبلوا على الدين بمراتبه الثلاث حتى لقبوا بلقب الصوفية لصفائهم عن الأكدار والشوائب التي لحقت بغيرهم، وهم الفئة التي أخبرنا عنها سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". و في روايات قائمة على الحق. وفي إحدى روايات البخاري: "لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك". والحديث رواه أيضا الترمذي وابن حبان وابن ماجة وأحمد والحاكم في المستدرك.
فهناك إذن "إسلام" وهو الإذعان والإستسلام، والخضوع للدين عن طريق القول الظاهري، والنطق اللساني، وأداء العبادات.
وهناك "إيمان" وهو التصديق بالقلب، والإعتقاد بالعقل، والإطمئنان في النفس إلى صدق ما يقوله اللسان.
وهناك "إحسان" وهو التوجه الكلي إلى الله، والتعلق الدائم به، والتفكير الموصل في صفاته وآياته، والمراقبة المستمرة لعظمته وجلاله والمشاهدة المقيمة لأنواره.
- وأما أصل الطريقة فلم تزل عند السلف ومن بعدهم طريقة الحق والهداية، أن أحيا الله بهم كثيرا من القلوب الميتة، وأصلح فسادها واستطاعوا بعون من الله وفضله أن يوجهوا فتوة العيارين والشطار القائمة على الإفساد والنهب... إلى وجهة صالحة، تقوم ركائزها على المروءة والشرف والأخوة الإسلامية والغيرة على الدين إذ كانوا نموذجا للسلف الصالح في العصور الوسطى والحديثة نفس الحب والتفاني، ونفس الحنين إلى الشهادة، والرغبة عن الدنيا... وجاهدوا في الله حق جهاده حتى خلصوا الوطن من براثن الإستعمار تلك هي الطرق الصوفية التي وسعت رقعة الإسلام وأدخلت ملايين كثيرة في الدين الحنيف. وعلى سبيل المثال جهاد البطل شيخنا الشيخ أبوعمامة الذي قاوم الإحتلال الفرنسي بالجزائر والمغرب الشرقي لما يقارب ثلاثة عقود كاملة.
وفي بيان المصدر الذي اعتمدوه في علمهم قال تاج العارفين الإمام الجنيد رضي الله عنه:" طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، إذ الطريق إلى الله تعالى مسدود على خلقه، إلا على المقتفين آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد أفاد وأجاد حجة الإسلام الشيخ الغزالي رضي الله عنه بوصفهم حين قال:" لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئا من سيرهم وأخلاقهم، لما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلا، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكات النبوة."
يقول الشيخ إبراهيم ابن أدهم رحمه الله حين يصف طريق التصوف:"أعلى الدرجات أن تنقطع إلى ربك، وتستأنس إليه بقلبك وعقلك وجميع جوارحك، حتى لا ترجو إلا ربك، ولا تخاف إلا ذنبك، وترسخ محبته في قلبك حتى لا تؤثر عليها شيئا."ه
ضرورة الصحبة:
قال شيخنا سيدي عبد القادر بن محمد رحمه الله" وأما أخذهم عن مشائخهم ففيها طريق بحسب أحوالهم، ومواقع أمورهم، وطريقة أهل الجماعة في ذلك أن يصافح الشيخ الفقير ثم يخلو به ويعلمه صورة الطريق، وما يترتب عليها، وليحقق ما يؤمر به ويكون يأمر بالخير بعد فعله، وأن يقوم بحق الله عليه في وجوب وقته.... ثم يغتسل وينوي أنه خرج عما كان فيه من سوء أعماله وأقواله وأفعاله ويجتنب الأشرار، ويلازم صحبة الأخيار،وصوم ما أمكنه من النهار،والركوع والسجود في الأسحار، ويجدد التوبة النصوح مع الاستغفار، آناء الليل وأطراف النهار.... فالصحبة واللقاء هما من الركائز فكان الأدنى اذا لقي من يفوقه استفاد منه .
قال في الياقوتة :
وأي سلوك كامل دون صحبة وأي اهتـداء شــامل دون منـحـة
وأي طريق راشد غير رشدنا وأي اهتمام الوقت من غير همة
وقال خليفته سيدي بوعمامة رحمه الله: يا من أردت النجاة من جميع المهالك، عليك بصحبة شيخ المسالك.
من ذكر الأدعية والأذكار بدون اذن خاص فانه يجد الثواب عند الله تعالى للاذن العام، ولكن يفوته خير كثير وللدعاء أو الذكر خصائص لاتحصل الا عن طريق التلقين.
اعلم أن المأخوذ عن غير شيخ، أوعن شيخ غير مأذون من شيخ الطريق فيه هلاك صاحبه أقرب من سلامته لاسيما أسماء الله الحسنى.
قال الشيخ أحمد بن المبارك، في كتابه الابريز، وسمعته يعني أستاذه سيدي عبد العزيز رحمه الله يتكلم على الذين يذكرون أسماء الله الحسنى في أورادهم فقال، ان أخذوها عن شيخ عارف لم تضرهم وان أخذوها عن غير عارف ضرتهم، فقلت وما السبب في ذلك؟ فقال، الأسماء الحسنى لها أنوار الحق سبحانه فاذا أردت أن تذكر الاسم فان لم يكن مع الاسم نوره الذي يحجب من الشيطان حضر الشيطان وتسبب في ضرر العبد، والشيخ اذا كان عارفا وهو مع الحق دائما، اذا أراد اسما من أسماء الله الحسنى لمريده أعطاه ذلك الاسم مع النور الذي يحجبه فيذكره المريد ولايضره.
قال الشيخ جبريل الخرماباذي رحمه الله، وههنا أصل أصيل يجب رعايته، فان الذكر بدون رعايته لايوصل الى المقصود وان كان لا يخلو من فائدة ما وهو أن يكون تلقين الذكر من شيخ مرشد تتصل صحبته وطريقته بالحضرة النبوية .
وفائدة الدخول في سلسلة القوم بالتلقين كما قال العارف بالله الشيخ العلوي رحمه الله:
انه اذا دهم المريد أمرا وتشوش منه قلبه واضطرب جاوبته جميع أرواح الأولياء من شيخه الأدنى الى الرسول صلى الله عليه وسلم الى حضرة الله عز وجل فيزول كربه وهمه ومن لم يدخل في طريق القوم بالتلقين فلا تجيبه روح أحد من أهل الطريق لعدم ارتباطه بهم فحكم ذلك كسلسلة الحديد اذا حركت منها حلقة جاوبتها بقية الحلقات.
أصل التلقين
قال الله تعالى:" ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن اوفى بما عاهد عليه الله فسنوتيه أجرا عظيما" سورة الفتح الآية 10
وأخذ الطريق ثابت في الكتاب والسنة، وقد ورد في الحديث الشريف، وسيرة الصحابة:
ـ تلقين الجماعة، أخرج البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بايعوني على أن لاتشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تواصلوا الا في المعروف فمن أوفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب في ذلك شيئا فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصابه من ذلك شيء ثم ستره الله فهو الى الله ان شاء عفا عنه وان شاء عاقبه. فبايعناه على ذلك.
وعن شداد بن أوس رضي الله عنه وعبادة بن الصامت حاضرا يصدقه قال:
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل فيكم غريب ـ يعني أهل الكتاب ـ فقلنا: لا يا رسول الله، فأمر بغلق الباب فقال: ارفعوا أيديكم وقولوا (لااله الا الله)، فرفعنا أيدينا وقلنا ( لااله الا الله )، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
الحمد لله اللهم انك بعثتني بهذه الكلمة وأمرتني بها ووعدتني عليها الجنة وأنك لاتخلف الميعاد، ثم قال: ألا فأبشروا فان الله قد غفر لكم.
ـ وعن جرير رضي الله عنه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على اقامة الصلاة، وايتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم.
أخرج الشيخان والحافظ جلال الدين السيوطي رضي الله عنهم من طرق متعددة،
عن علي كرم الله وجهه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله دلني على أقرب الطرق الموصلت الى الله عز وجل وأسهلها على العباد وأفضلها عند الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ياعلي عليك بمداومة ذكر الله سرا وجهرا، فقال الامام علي رضي الله عنه ان الناس كلهم ذاكرون وانما أريد أن تخصني بشيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صه، ياعلي أفضل ماقلته أنا والنبيون من قبلي لااله الا الله ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع وضعن في كفة ولااله الا الله في كفة لرجحت لااله الا الله، ثم قال يا علي لاتقوم الساعة وعلى وجه الأرض من يقول الله الله ، فقال علي كيف أذكر يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أغمض عينيك واسمع مني لااله الا الله ثلاث مرات ثم قل أنت ثلاث مرات وأنا أسمع ....
قال يوسف الكوراني ان عليا كرم الله وجهه لقن الحسن البصري وهو لقن داود الطائي ومنه الى الجنيد شيخ الطائفة وعنه تفرع وانتشر التصوف في أصحابه وهلم جرا لاينقطع حتى ينقطع الدين .
وعن أنس رضي الله عنه قال: (قدمت المدينة وقد مات أبو بكر رضي الله عنه واستُخلف عمر رضي الله عنه، فقلت لعمر: ارفع يدك أُبايعك على ما بايعت عليه صاحبك قبلك، على السمع والطاعة فيما استطعت) ["حياة الصحابة" ج1/ص237].
عن سليم أبي عامر رضي الله عنه: (أنَّ وفد الحمراء أتوا عثمان رضي الله عنه فبايعوه على ألاَّ يشركوا بالله شيئاً، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، ويَدَعُوا عيد المجوس، فلما قالوا: نعم، بايعهم)[رواه الإمام أحمد كما في نفس المرجع].
ثم نهج الورَّاث من مرشدي الصوفية منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في أخذ البيعة في كل عصر، فقد ذكر الأستاذ الندوي في كتابه "رجال الفكر والدعوة في الإسلام": (أن الشيخ عبد القادر الجيلاني فتح باب البيعة والتوبة على مصراعيه، يدخل فيه المسلمون من كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي، يجددون العهد والميثاق مع الله، ويعاهدون على ألاَّ يشركوا ولا يكفروا، ولا يفسقوا، ولا يبتدعوا، ولا يظلموا، ولا يستحلوا ما حرَّم الله، ولا يتركوا ما فرض الله، ولا يتفانوا في الدنيا، ولا يتناسوا الآخرة. وقد دخل في هذا الباب ـ وقد فتحه الله على يد الشيخ عبد القادر الجيلاني ـ خلق لا يحصيهم إلا الله، وصلحت أحوالهم، وحسن إسلامهم، وظل الشيخ يربيهم ويحاسبهم، ويشرف عليهم، وعلى تقدمهم، فأصبح هؤلاء التلاميذ الروحيون يشعرون بالمسؤولية بعد البيعة والتوبة وتجديد الإيمان) ["رجال الفكر والدعوة في الإسلام" ص248].
بحث وتحقيق خادم الطريقة الشيخية بفرنسا حاكمي مصطفى
المصادر: القرآن الكريم برواية الإمام ورش، يسألونك في الدين والحياة للدكتور أحمد الشرباصي، الياقوتة والحضرة للمقدم عبد الله طواهرية، البطولة والفداء عند الصوفية للدكتور عبد الكريم اليافي.