( الحلقة الخامسة من سلسلة الشيخ سيدي بوعمامة )

( الحلقة الخامسة من سلسلة الشيخ سيدي بوعمامة )

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين

المقالة رقم 5

تحياتي أحبابنا الكرام، جميع القراء من جميع الشرائح والطبقات والفئات، ورمضان مبارك سعيد مرة أخرى، وبعد...

نواصل عملنا المبارك، سلسلة المقالات التعريفية بالشيخ بوعمامة، هذا الذي بخسه التاريخ حقه، ولم تتورع بعض الألسنة عن المس في مكانته، والاستخفاف بكرامته، والولغ في عرضه، فتحركت همم بعض أبنائه من الصلب والقلب، وأبوا إلا أن يتجندوا ليعرضوا على الدنيا حقيقة هذا الرجل، ومكانه العالية ومقامه السميق، وتفنيد ما أراد المغرضون، سواء من أعداء الاستعمار الظاهرين، وإن كان بعض هؤلاء ما فتئوا ينصفونه بين الفينة والأخرى، أو من المضللين من بني جلدتنا، الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن الصواب، ولم يشفقوا على صحائفهم من الغيبة والنميمة، فانغمسوا في عرض الرجل، يرمونه بالنعوت التي يتعفف ذوو الهمم العالية أن ينسبوها حتى لألد الأعداء...

بدون إطالة إذن، ندخل في توضيح الأجواء العامة والخاصة التي سبقت ظهور الشيخ بشكل سريع. ولما كان التطرق للنقاط الثمانية عشر التي أدرجنا في المقالة الماضية بنوع من التوسع، من شأنه أن يذهب بنا بعيدا عن صلب الموضوع، لأن المدة الزمانية محدودة، فسأكتفي بالتطرق للخطوط العريضة دون تفاصيل، في الجوانب الكبرى، خصوصا تلك البعيدة عن مرحلة الشيخ. وأرجو أن لا يلومني أي أحد، لماذا لم أقم بتفصيل هذه النقطة أو تلك، ولمن أراد التفصيل لجميع تلك النقاط، فعليه بالعودة لمضانها، فأقول وبالله التوفيق...

أولا: مراحل ما قبل انطلاق سلسلة الثورات الرسمية لأولاد سيدي الشيخ:

لما قدر الله أن تدخل جحافل الجيش الفرنسي أرض الجزائر بشاطئ سيدي فرج، وكان من شأن الفتنة التي قامت ما كان، ما لبثت القبائل الجزائرية الحرة تبحث عن حل عاجل لمآسيها. وكان حينها في المنطقة الغربية الشيخ المربي، الرجل الصالح، الشريف الحسيب النسيب، سيدي محي الدين، ما فتئت قبائل المنطقة أن اجتمعت عليه لتبايعه كقائد على الجهاد ضد فرنسا. ولما كان الرجل طاعنا في السن، كان له ولد شاب، أوتي نصيبا وافرا من التربية والعلم والحركة والحيوية وروح الجهاد، أسند إليه والده بيعة تلك القبائل ليقودهم للجهاد في سبيل الله ونصرة الدين والوطن...

وكان على رأس المغرب حينها سلطان ينعت بالعلم والتدين والفضل، الشريف سيدي عبد الرحمان بن هشام، فما لبث أن وقع بين الرجلين تقارب كبير...

ـ فمن جهة، كان السلطان مولاي عبد الرحمان يرى أن نصرة إخوانه بالجزائر واجب شرعي لا مهرب منه. كما أن من شأن تلك النصرة دفع العدو الفرنسي عن حدود بلاده الشرقية حتى لا تتوسع أطماعه إليها..

ـ ومن جهة أخرى، كان الأمير عبد القادر، وهو على رأس الجيوش التي تم تجميعها من القبائل، يرى ضرورة وجود السند الشرعي للجهاد، أي الأمير الشرعي الذي ينادي به ليكون جهادا شرعيا، ما دامت القيادة الشرعية بالجزائر كانت حينها غائبة...

وتعانقت ضرورات الرجلين، وتوحدت رؤيتهما، ووقعت بينهما بيعة متبادلة، على أن يبعث السلطان من يقوم بقيادة المنطقة باسمه، ويكون الأمير عبد القادر قائدا للجيوش...

ـ غير أن المسألة لم تدم طويلا، إذ سرعان ما تباينت الخطوط العريضة بين الرجلين لعدة أسباب، ليس هنا مكان تفنيدها، فانصرفت الجيوش المغربية لحال سبيلها، وظل السلطان يدعم الأمير عن بعد، بالعدة والعتاد والمتطوعين من الرجال...

ولما شعرت فرنسا بخطورة دعم السلطان للأمير، وبعدما حذرته غير ما مرة فأبى إلا أن يواصل أداء الواجب، قررت المواجهة المسلحة، مما أدى إلى نشوب الحرب الكارثية بين المغرب وفرنسا بنواحي مدينة وجدة...

ولعلم القارئ الكريم، فمنذ سنة 1832، كانت قبيلة أولاد سيدي الشيخ قد تجندت إلى جانب الأمير عبد القادر، إلى جانب أهالي فجيج الذين كانوا يدعمونه بالبارود والسلاح. إلا أن صرامة الأمير عبد القادر بالفطرة والضرورة لكي يحكم القبضة، وحساسية وأنفة أولاد سيدي الشيخ العالية، سرعان ما أدت إلى انفصال الطرفين، كإشارة للبذور الأولى لتفكك صفوف جيوش الأمير...

ـ كانت معركة إيلسي البئيسة التي دارت رحاها قرب مدينة وجدة سنة 1844، كارثة على المغرب وعلى مناطق الحدود بجميع المقاييس. يكفي أن جيشا مغربيا عرمرما مكونا من حوالي ستين ألف مقاتل، وعلى رأسه أحد الأمراء، ينهزم بمرارة أمام جيش فرنسي لا يزيد عدده عن إثني عشر ألف رجلا، رغم أنه كانت للجيش المغربي قضية صحيحة يدافع عنها. غير أن حسن الإعداد من عوامل الانضباط والتدريب والمهنية وحداثة التسليح، أبانت عن دورها ورجحت الكفة في نهاية المطاف..

وللأسف الشديد، فقد ترتب على هذه الهزيمة جملة من المآسي، بما فيها اتفاقيتين مؤسفتين:

ـ الأولى اتفاقية طنجة التي ألزمت السلطان أن يقطع بموجبها العلاقة مع الأمير عبد القادر...

ـ أما الثانية، فاتفاقية لالة مغنية التي كانت أدهى وأمر، تمخضت عنها عدة شروط مجحفة منها:

ـ تقسيم قبيلة أولاد سيدي الشيخ إلى غرابة وشراقة، مع الاستيلاء على جميع أراضي الغرابة..

ـ تقسيم قبيلة حميان إلى جنبة وشافع، تم بموجبها ضم الجنبة للمغرب بدون أراضيها أيضا...

إلى جانب شروط أخرى مجحفة كانت جميعها تصب في صالح فرنسا المنتشية بالنصر...

وكانت تلك هي الأسباب التي دفعت بفصيل أولاد سيدي الشيخ الغرابة، تحت قيادة السيد الشيخ بن الطيب وابنائه من بعده، إلى إعلان المقاومة ضد الجيش الفرنسي، وضد القبائل المنضوية تحت لوائه، والتي كانت ترفض أولاد سيدي الشيخ بأراضيها...

كما كانت فرنسا في غاية الخبث والدهاء، حينما استغلت النزاع الذي كان قائما بين فصيلي أولاد سيدي الشيخ، نزاع دام لحوالي القرنين من الزمان، نتورع عن التطرق إليه، فكان أن قسمتهم بمنطق القوة إلى شراقة، وهم الذين كانوا يسكنون القصر الشرقي بمدينة الأبيض سيدي الشيخ، وغرابة، وهم الذين كانوا يسكنون القصر الغربي من نفس المدينة، وهم في الصل بنو عمومة من نفس الأصل والعائلة...

ثانيا: مراحل ثورات أورد سيدي الشيخ

وكان من خبث فرنسا ودهائها أيضا، أنها قربت الفصيل الشرقي لأولاد سيدي الشيخ في شخص الشيخ حمزة بن بوبكر، هذا الذي أحدثت له منصبا جديدا، فصار بموجبه أميرا سيدا على كامل المنطقة.

ولكنها سرعان ما أدارت له ظهر المجن كما يقال، فاستدعته على غرة إلى الجزائر العاصمة سنة 1861 لتغتاله ببرودة. ثم ما لبثت أن تقوم بنفس الفعل مع ابنه السيد بوبكر سنة بعد ذلك..

غير أن ابنه الثالث، السيد سليمان الذي تولى القيادة بعد أخيه، ما إن أيقن أن فرنسا بصدد تطبيق مخطط رهيب، تبرمج فيه القضاء على رجال العائلة بكاملها تواليا، أسرع لإعلان الحرب على فرنسا، فكانت أولى معاركه المشهودة والمشهورة، معركة عوينة بوبكر يوم 18 أبريل 1864، أين قضت جيوشه الباسلة على الكتيبة الفرنسية بكاملها، بما فيها قائدها العقيد بوبريتر الذي قتله السيد سليمان بيده، ليسقط هذا الأخير شهيدا في ساحة المعركة، ثم تتوالى القيادة بين إخوته من بعده تواليا...

وإلى جانب ذلك، كانت فرنسا قد استطاعت بقوة السلاح، أن تجعل نهاية لجملة من الثورات الجزائرية، التي كانت تقوم هنا وهناك في مختلف ربوع الوطن، نذكر منها على سبيل المثال، مقاومة الشيخ المقراني، ومقاومة الجزائرية الحرة، السيدة فاطمة تسومرت، إلى جانب النكاية المؤلمة التي أوقعتها الوحوش الفرنسية الضارية بقصر الزعاطشة، الذي أبادته عن بكرة أبيه كما يقال...

ولعلم القارئ الكريم، لما انطلقت شرارة ثورة أولاد سيدي الشيخ الكبرى سنة 1864، كان الشيخ بوعمامة في عقده الثالث، وكان يتابع الأحداث من مدينة فجيج، كما كانت تتابع كافة أطياف القبيلة، ما كان يجري في ميادين القتال. وكانت الآمال معلقة على الجيوش الشيخية بقيادة السيد قدور بن حمزة أن تنتصر، لتعيد الاعتبار للبلاد والعباد. غير أنه سرعان ما بدأت تتوارد أخبار غير مفرحة بين الفينة والأخرى، خصوصا حينما كانت فرنسا تجيد الحبائك والمؤامرات بين الإخوة الأشقاء، زعماء الغرابة والشراقة، بمن فيهم الزعامة الجديدة للسيد سليمان بن قدور...

ولما تبين للشيخ بوعمامة في منتصف سبعينات القرن، أن ثورة الشراقة آيلة إلى أفول، بدأ الشيخ يفكر بجد، كيف يمكنه أن يواصل حمل راية الجهاد بعد بني عمومته. وهذا ما سيسوقنا إلى الحديث عن بدايات الشيخ بوعمامة الشاب، الذي كان حينها في عقده الرابع...

وبهذا سنشرع إن شاء الله، بعد هذه العجالة الجد مختصرة، مقارنة مع شساعة الموضوع وتشعبه، إلى المقدمات المباشرة للخطوات الأولى للمسيرة المظفرة للشيخ بوعمامة، فتابعونا في المقالات القادمة إن شاء ءالله...

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته...

أخوكم أحمد حاكمي

موقع الطريقة الشيخية الشاذلية ( طريقة أسلاف بيضاء نقية )

Mise en ligne le 15/11/2004. Tariqa-Cheikhiyya© 2004