وصلى الله وسلم عل سيدنا وحبيبنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين...
ما بعد موضوع الأسرى
تحياتي لكم جميعا أحبابنا الكرام، من قراء ومتابعين ومهتمين ومحبين لسلسلة حصص التعريف
بالشيخ بوعمامة رحمه الله، أحييكم بتحية الإسلام المباركة الطيبة وبعد...
أضع بين أيديكم الحصة رقم 28 من السلسلة المباركة، والتي بدانا في تحريرها منذ مطلع هذا الشهر
الكريم...
نواصل حصصنا المباركة التي تعرف بالشيخ بوعمامة، نسير معه خطوة خطوة حتى كأنك تراه..
رأينا في الحصة الماضية النتائج والمكاسب التي حصل عليها الشيخ من وراء تسليم الأسرى بدون
مقابل، على الرغم من أهمية الورقة التي كان بالإمكان أن يحصل بها على مكاسب. وكان من
المفروض أن تتم مكافأة الشيخ من طرف فرنسا على التصرف الإنساني العظيم الغير مسبوق، سواء
ما تعلق بحسن معاملة الأسرى أو تسليمهم لها بدون مقابل. ولكن هل تظنون أن فرنسا من الجنس
الآدمي )الخيمة الكبيرة( الذي يعترف بالخير والفضل... أبد... أبدا... فماذا فعلت..
لقد أخذت الوقت الكافي لتضميد جراحها وللملمة صفوفها وإعادة النظر في سياستها، بعدما تأكدت
أن المواجهة المباشرة مع الشيخ بوعمامة، عدوها الأبدي اللدود كما كانت تسميه، لن تجدي نفعا في
رتلك الظروف بالذات، وقد رات من باسه ما رأت. وأنى لهم مقارعة قوم يصرخون في وجوههم
قائلين: نحن قوم نحب الموت كما أنتم تحبون الحياة.....
أول ما فكرت فيه فرنسا القيام بمعاقبة جميع القبائل التي انضمت إلى صفوف الشيخ، لأن معظم
رجالها كانوا قد التحقوا بصفوف المجاهدين، مما سهل عليها المأمورية الانتقامية بسهولة وبدون
مقاومة ولا خسائر. كما عملت على الاستيلاء على جميع خيرات تلك القبائل وركوبها وتحطيم
محصولها سواء من الفلاحة أو البساتين.
بل قد عملت على أسر جميع الرجال الذي قدرت أنهم
سيحملون السلاح ضدها يوم ما. وقد تعرضت عدة قبائل لهذا التصرف الهمجي، وتعرضت عائلاتهم
لما يشين بالسمعة والكرامة. وكانت قبيلة لغواط أول من تعرض لبأس شديد. كما أعطت مزيدا من
الصلاحية للقواد الذين عينتهم على راس القبائل لأذلالهم ونهبهم والسيطرة عليهم واستصغارهم حتى
لا يبدون حراكا...
ثاني تصرف خبيث قامت به، أنها بدأت في محاولة زعزعة صفوف جيش المجاهدين، وذلك عن
طريق التشكيك في قدرة الشيخ أن يحقق شيئا مما يقول، وأنه إنما يريد أن يحصل على ظهورهم
على مكاسب في النهاية، وأن مصيره لن يخرج عن مصائر من سبقوه من الثوار، بالموت أو
الاستسلام.
وهذا التصرف أتي أكله، إذ سرعان ما بدأت بعض المجاهدين يراجعون مواقفهم،
خصوصا أولئك الذين تعرضت قبائلهم للتنكيل. وقد نجحت فرنسا إلى حد ما في هذه المهمة، بعدما
بدأت بعض القبائل تتسلل من صفوف الجيش البوعمامي بدعوى أو أخرى، وفي حقيقة الأمر كان
من تد بير شياطين الانس...
وكان ثالث التصرف الهمجي أنها عملت على إرسال فيلق على رأسه عقيد متغطرس كلفته بتدمير
جميع محاصيل وبساتين قرية الأبيض سيدي الشيخ. وقد قام هذا العقيد المسمى نيقريي بالمهمة كما
كان مسطرا وزيادة. فقد دمر جميع القرية والبساتين، بل وقام بتفجير القبة الشريفة للجد الأعلى
لقبيلة أولاد سيدي الشيخ، والشيخ المؤسس للطريقة الشيخية، والرمز الأساسي الذي تتوحد عليه
جميع قبائل المنطقة، المسمى سيدي عبد القادر بن محمد.
وقد قامت فرنسا بتفجير هذه القبة المقدسة
يوم 15 غشت 1881 ، لما أيقنت أنه يمثل رمز وحدة القبائل ومنبع المدد للشيخ بوعمامة ولجيشه
الباسل، وإلا فلماذا لم تقم بهذا العمل الشنيع منذ بداية ثورة أولاد سيدي الشيخ الأولى...
وكان رابع تصرف خبيث عملت عليه فرنسا بقوة، أنها أوعزت إلى بني عمومته من قواد فصيلي
أولاد سيدي الشيخ الشراقة والغرابة معا، بأن بوعمامة إنما جاء لينافسهم وليأخذ منهم الزعامة
وشرف الثورة ويستقطب منهم القبائل التابعة لهم. وكانت هذه الضربة موجعة، لأنها سببت في
انصراف بعض الأطراف من صفوف جيشه ممن كانوا تابعين لهذا الفصيل أو ذاك سابقا...
غير أن أخطر ضربة قامت بها فرنسا اللئيمة كمكافأة للشيخ بوعمامة على حسن صنيعه مع
الأسرى، أنها أوفدت فيلقا آخر إلى مغرار التحتاني أين كانت زاوية الشيخ بوعمامة، لما علمت أن
هذا الأخير قد جعل له زاوية متنقلة تحسبا لما قد يقع، وأعطت الأوامر الصارمة بأن يتم تدمير
الزاوية بالكامل وتدمير جميع القرية بما في ذلك بساتين النخيل والأشجار المثمرة التي كانت بها...
أضف إلى ذلك مشكلة أخرى بدأت تعترض سبيل الشيخ وتثقل كاهله، تلك التي ستظل ملازمة له
إلى أخر حياته، وهي مسؤولية حمل جميع العائلات التي تم استشهاد أربابها معه في المعارك، مما
يحتم عليه التحمل بنفقاتها والعناية بها وإعداد مراكبها عند التنقل، وهو أمر عظيم جدا أضيف إلى
المسؤوليات المتعددة التي كانت تطوقه...
وهكذا فقد عملت فرنسا بمكر ودهاء على استنزاف قدرات الشيخ أولا، وعلى اللعب على النقاط
الحساسة لديه، قبل أن تفكر في مواجهته عسكريا حينما يكون منهار القوى ومنحط المعنويات...
غير أن ذلك التخيط لم يفدها في شيء كما سنرى...
هكذا إذن أصبحت وضعية الشيخ الاجتماعية والعسكرية والاقتصادية بعد المسيرتين، وبعد تدمير
ضريح جده وشيخه ومنبع قوته وأسراره، وبعد تدمير زاويته التي أقام بمغرار...
ماذا سيقع بعد هذه المرحلة الحساسة، وهل سيتأثر الشيخ في الميدان فعلا من جراء هذه الدسائس،
وهل ستنجح فرنسا في تطويقه واستسلامه أو القضاء عليه كما كانت تحلم، سنرى ذلك في الحلقات
القادمة، فتابعونا مشكورين ومأجورين إن شاء الله تعالى...
أخوكم أحمد
21-06-2021