وصلى الله وسلم عل سيدنا وحبيبنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين...
نتائج ومخلفات موضوع الأسرى
تحياتي لكم جميعا أحبابنا الكرام، من قراء ومتابعين ومهتمين ومحبين لسلسلة حصص التعريف
بالشيخ بوعمامة رحمه الله، أحييكم بتحية الإسلام المباركة الطيبة وبعد...
أضع بين أيديكم الحصة رقم 27 من السلسلة المباركة، والتي بدانا في تحريرها منذ مطلع هذا الشهر
الكريم...
تطرقنا في الحصة الماضية لتطورات الأسرى الذين كانوا في قبضة الشيخ بوعمامة. ورأينا كيف
لجأت فرنسا إلى الحيلة لتخليصهم من قبضته، وقد نجحت لها تلك الخطة بالكامل، حينما استعانت
بمخبريها ومعاونيهم، أولاء الذين كانوا على بينة من مكارم أخلاق الشيخ، وعلى بين من المقيم
والمبادئ التي كان يتحلى بها.
ورأينا كيف لجأت إلى سلسلة طويلة من عدة مراكز ومن عدة
أشخاص قبل أن يتحقق لها المراد. ورأينا أن الشيخ بوعمامة، رغم الأهمية القصوى لورقة الأسرى
التي بين يديه، إلا أنه لم يتردد ولو لحظة واحدة للموافقة على تسليم الأسرى. وكان التساؤل، ما هي
الآثار المترتبة على ذلك التصرف، وما هي المكاسب التي حققها الشيخ بوعمامة من ورائه..
أقول وبالله التوفيق:
لم يكن الشيخ بوعمامة يقينا بالرجل الساذج، أو النية كما يقال، لتمر عليه الأمور هكذا بدون تأمل
ولا تفكير ولا دراسة للعواقب. وباختصار شديد، أشير إلى النقاط التالية :
لقد كان مكسب الرجلين وتعاطفهما معه أعظم عنده من ورقة الأسرى في حد ذاتهم.
فالسيد سليمان بن قدور كما أشر نا، كان رجلا ذا بأس شديد، وكان شجاعا معاكسا ومندفعا في
أغلب الأحيان، لا يخشى لومة لائم، وكان غالبا لا يقدر العواقب إذا ما ثارت ثائرته. وكان اكتساب
وده مكسبا عظيما لعدة أسباب منها:
استغلال قوته القتالية الضاربة عند الحاجة.
تفادي بأسه في المستقبل إذا ما تمكن العدو من استعطافه وتوظيفه لصالحه،
البرهنة لهذا القائد الكبير عن حسن نيته وتقديره وإكباره له، لأنه قبل كل شيء من بني عمومته
وأكبر منه سنا يستحق منه ذلك..
الإيحاء له بضرورة التعاون والتكاتف على العدو المشترك الذي جاء ليخرب البلاد ويستعبد
العباد، ويمحو الدين ويبيد ما شيده الأسلاف.
وكان يرمي من خلال استعطاف هذا القائد إلى استعطاف بني العمومة الآخرين واكتساب ودهم،
سواء قادة الفصيل الشرقي أو الفصيل الغربي من أولاد سيدي الشيخ...
وكان يرمي من وراء ذلك أضيا إلى تفنيد الإشاعات الكاذبة التي كانت فرنسا تروجها لدى
زعماء أولاد سيدي الشيخ، بأن بوعمامة جاء ليهمشهم ويكتسب شرف الثورة باسمه الخاص
لاكتساب الشهرة.
هذه النقطة الأخيرة هامة للغاية، لأن فرنسا كانت ولا زالت تسعى إلى تطبيق سياسة فرق تسد في
أرض الميدان، لأنها كانت على يقين، أنه لو تم الاتفاق بين زعماء الفصائل الشيخية الثلاثة،
فسيكونون قوة ضاربة، ولن تستطيع فرنسا أن تقاومهم...
وإلى جانب ذلك، فقد ضرب مثالا رائعا في نبل الأخلاق وعلو الكعب في الإنسانية، سواء أمام
العدو الفرنسي الذي يخشى أصلا هذه القيم بالذات، أو أمام القبائل لكي تطمئن إلى دعوته وتنضم
إليها مستقبلا...
أما بالنسبة لقاضي الشرفاء أولاد نهار، فقد كان لكسب وده مغزى آخر، يتمثل في تقدير العلاقة
النسبية الضاربة في الأعماق بينهما، حتى يكسب وده وود جميع القبائل التي كان يمثلها..
إضافة إلى تقديره للمنصب الذي كان يحتله الرجل، فهو رغم الظروف القاسية، كان قائما على
وظيفة شرعية، وظيفة القضاء التي ينبغي التمسك بها بقوة، حتى لا تنفلت آخر الشعرات التي تربط
المجتمع بالدين الحنيف، خصوصا إذا سعت فرنسا إلى حبك الدسائس لإلغاء الدين بالمرة من حياة
المسلمين...
وهكذا يتبين مدى بعد نظر الشيخ بوعمامة في معالجة الأ حداث، ومدى رؤيته المستقبلية للأوضاع،
ومدى قدرته على حسن استغلال كل جزئية تتاح له على أحسن الوجوه. فقد بين الشيخ بوعمامة
بذلك أنه رجل دين بالمعنى العميق، ورجل سياسة محنك، ورجل قيادة عسكرية بامتياز، ورجل
صاحب مهارة جهادية قل نظيرها، ورجل تربية وسلوك كما سنرى في ما بعد، وبالتالي رجل
متكامل من جميع الجوانب، قلما يجود الزمان بمثله كما يقال، وهذا دون التطرق للجوانب الربانية
للرجل، وأسرار العناية الخفية التي كانت تلازمه، وقد نتطرق لها في إبانها...
وقبل أن أختم هذا المقال أشير:
أن السيد سليمان بن قدور هذا، له تاريخ حافل قد نتطرق له في ما بعد. وهو ينتمي لفصيل أولاد
سيدي الشيخ الغرابة، وقد شق لنفسه جبهة خاصة، وقد تمكن من احتلال عدة مناصب، أذكر منها أنه
تم تعيينه في منصب عامل وجدة في وقت من الأوقات، إضافة إلى تقريب السلطان له، ومصاهرته
معه من طريقين.
أقول شق لنفسه جبهة خاصة رغم أن زعامة فصيل أولاد سيدي الشيخ الغرابة كانت في يد القائد
السيد الشيخ بن الطيب، وفي خلفه من بعده،
بينما كانت قيادة فصيل أولاد سيدي الشيخ الشراقة في نفس الفترة بيد السيد قدور بن حمزة، وهو
آخر من تسلم القيادة الجهادية من أبناء الشهيد السيد حمزة بن بوبكر رحمه الله...
أخوكم أحمد
20-06-2021