( الحلقة الثامنة عشر من سلسلة الشيخ سيدي بوعمامة )

( الحلقة الثامنة عشر من سلسلة الشيخ سيدي بوعمامة )

بسم الله الرحمن الرحيم...

وصلى الله سلم على سيدنا وحبيبنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحابته أجمعين

الخطوات الأولى

تحياتي لكم جميعا أحبابنا الكرام، الذين يتابعون معنا هذه الصفحات المضيئة للتعريف بأحد رجالات الإصلاح والجهاد البارزين في العصر الحديث على المستوى المغاربي والعربي والقاري، والذي خضعت رقاب العدو رغما عنها: أنه الشيخ بوعمامة.

وقفنا في الحصة الماضية إلى شدة ترقب أعين المستعمر لتحركات محيط الشيخ بوعمامة، وأنهم رصدوا تحرك شخصية يبدو أن الشيخ بعثهما في مهمة إلى إحدى القبائل. وما لبثوا أن أسرعوا الخطى لإعلام السادة، هؤلاء الذين أعطوا الأوامر بإلقاء القبض على الرجلين، إذ أعطوا الأمر لفرقة مكونة من ضابط برتبة فسيان ومعه 5 من الجنود لالتحاق بهم وإلقاء القبض عليهم. وصادف أن الرسولين مرا على أحد الدواوير لقبيلة الجرامنة، كانت تقام فيه أفراح زفاف.

وبينما الجمع في احتفالهم ونشاطهم، إذا بالخلية العسكرية تلتحق بهم. وكان أن فطنوا لنية الفرقة العسكرية، فسارعوا إلى إخفاء الرجلين الطيب ومرزاق في إحدى الخيام. ولما قدمت الفرقة رحبوا بهم وطلبوا منهم أن يترجلوا وأن يقبلوا ضيافتهم. غير أن الضابط كان متغطرسا، ولم يسمع لكم كلاما، بل صعد معهم اللهجة، وأمرهم بإخراج الرجلين،

فلان وفلان، وإلا فالعواقب ستكون وخيمة. وبعد محاولات عديدة من لين الكلام، لم يقبل منهم الضابط المسمى واين بيرنير لا صرفا ولا عدلا. وقيل أنه أراد أن يدخل إحدى الخيام عنوة، فما كان منهم إلا أن أطلقوا عليه النار فأردوه قتيلا هو وأربعة من مرافقيه، ولم يتركوا منهم إلا شخصا واحدا ليبلغ سادته بما وقع...

وقعت هذه الحادثة يوم 22 أبريل، أي نحن نعيش ذكراها المائة والأربعين هذه الأيام...

ولما بلغ الخبر الشيخ بوعمامة تأسف كثيرا لكون أهل الدوار قاموا بما قاموا به بغير إذن، واستعجلوا الأمور، وقاموا بإشعال فتيل الثورة قبل التاريخ الذي كان مخططا لها....

كان في تقدير الشيخ أن الوقت المناسب لانطلاق الثورة هو فصل الخريف، أي بعد جني المحصول وتحصينه عن مخالب العدو، لأنه كان على يقين أن الثورة إذا ما اشتعل فتيلها فإنها ستطول مدتها، وتتطلب نفقات ومؤنا كثيرة. وقد أشرنا سابقا أن سنوات عجافا جاءت متتالية على المنطقة.

ومن جهة أخرى، كان الشيخ على علم بأن فرنسا قد استولت على جل وسائل التنقل من القبائل، بما فيها الخيل والجمال والبغال، كما استولت على جل خيراتها من المؤن والمدخرات، وذلك حتى تعوزهم تسحبا لأي ثورة قد تندلع وينضمون إليها.

ومن جهة أخرى كانت حريصة على زرع بذور العداوة والنفور بين القبائل باستغلالها لأتفه الأسباب، وإحيائها النعرات القديمة حتى لا تتركها تفكر في التوحيد حول أي قائد كان...

تأسف الشيخ كثيرا لما وقع، ولم يجد بدا من أن يقرر التحرك بسرعة، يقينا منه أن فرنسا لن تترك الحدث يمر دون محاولة عقاب...

وخلال أيام قليلة جدا، بدا يرسل الموفدين للقبائل التي كانت أعلنت بيعتها له على الجهاد. وكان قد بعث لها بمكاتبات واضحة ودقيقة، مخافة الانتكاسة. كان لب مراسلاته تقوم على ما يلي:

ـ ليلتحق بنا جميع من يتطوع عن طيب خاطر للجهاد، ولا يلتحق بنا أي متردد...

ـ على من يلتحق بنا أن يأتي مزودا بسلاحه وراكبته...

ـ موعدنا يوم كذا (يوم محدد)، بالمكان كذا (مكان محدد)...

ـ ليلتحق بنا جميع المتطوعين، سواء كانوا مشاة أو فرسانا أو على الجمال...

كان الشيخ قد حدد موعدا قريبا، لأنه يعرف أن الوقت ليس في صالحه. كان على يقين أن فرنسا ستجهز جيوشا جرارة بمجرد إعطاء الأمر، لأن فيالقها جاهزة للقتال مسبقا. أما هو، فكل شيء سيأتي عليه عفويا. فلا عدد محدد، ولا جيش مدرب، ولا قلوب متآخية، ولا سند منتظر، ولا أسلحة في ذات اليد مواتية، ولا تجربة في المواجهات سابقة....

ولكن مع ذلك لا بد من اقتحام العقبة. لقد نادى المنادي للجهاد فلا مفر، فإذا عزمت فتوكل. وكان لزاما عليه أن يكثر من الأذكار والابتهالات والأدعية في تلك الفترة، فرادى وجماعات، وأن يكثر من زيارات ضريح شيخيه سيدي عبد القادر بن محمد (سيدي الشيخ) ويعتكف فيه ما استطاع، حتى يستمد منه المدد الروحي الرباني الكافي، لأنه سيعلن الجهاد باسمه واسم طريقة أسلافه الميامين، الطريقة الشيخية...

واجتمعت الوفود المباركة في الموعد المحدد، وفي المكان المحدد، ورتب فيها الشيخ ما استطاع، وتكلم فيها بما يكفي، ونظم الصفوف حسب المتاح، وحاول أن يستغل نخوة الإنسان العربي، بحيث جعل لكل قبيلة قيادة مستقلة منها، وجهة محددة في المواجهة خاصة بها حتى يقع التنافس. كما جعل قيادات على الجهات الكبرى، كأجنحة الميمنة والميسرة والصدر، وجعل على رأس كل فيلق خاص رئيسا الرماة والمتوفر من الأسلحة الثقيلة.

وتولى هو القيادة العليا، بحيث بني له عريش يطل على ساحة المعركة بكاملها، حتى يصدر ما يراه مناسبا للأوامر وهو يرى في ما يجري في الساحة...

وخطب فيهم الخطاب الأخير قبل الملحمة، وكان يركز فيه على المعاني السامية التي أتتبها سورة الأنفال، والآيات القرآنية الواردة في الباب مثل: من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه... وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم... إن تكونوا تالمون فإنهم يالمون كما تالمون وترجون من الله ما لا يرجون...إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئاتين...

وكم ذكرهم بغزوة بدر الكبرى، وكيف هيأ الله الانتصار للمسلمين في أصعب الظروف رغم الاختلاف الكبير بين الفريقين في العدة والعتاد...وبلغ الاستعداد قمته، وبلغ الحماس ذروته، ولم يعد أمام جيشه الباسل إلا النصر أو الاستشهاد في سبيل الله والحصول على الجنة.. وكم كان يرفع هممهم بذكر مواقف خاصة، كصاحب التميرات التي ناداها قائلا، بخ بخ، ما بيني وبين الجنة إلا أكل هذه التميرات، والله لن اضيع الوقت بتناولها، فرمى بها إلى الأرض وتوجه للقتال...

كانت هذه اللحظات الحاسمة قبل اللقاء الحاسم. كانت حاسمة لأن القبائل حتى تتشوق إليها منذ مدة، وهي التي صارت ترى كرامتها تنتهك، وخيراتها تنهب، ودينها يداس، وأنفتها تتهاوى، وكانت ترى أنه لا خير في حياة تهان فيها شهامة وكرامة وأنفة الإنسان العربي المسلم الحر الأبي، فقد تعلم قديما قول السيدة العربية الحرة لابنها وهو على أبوبا الهلاك: لموت في ساحة الحرب خير لك من عيش ذل وخضوع..

ماذا سيقع في هذه الملحمة الكبرى، هل ستكون يوم فرقان في مساره، وماذا عن استعدادات الطرف الآخر، ومالا هي مجريات الملحمة، وما هي النتائج...

كل ذلك سنراه إن شاء الله في الحلقة القادمة وما يليها من حلقات، فتابعونا مشكورين ومأجورين إن شاء الل تعالى..

أخوكم أحمد حاكمي

08-06-2021

موقع الطريقة الشيخية الشاذلية ( طريقة أسلاف بيضاء نقية )

Mise en ligne le 15/11/2004. Tariqa-Cheikhiyya© 2004