( الحلقة السادسة عشر من سلسلة الشيخ سيدي بوعمامة )

( الحلقة السادسة عشر من سلسلة الشيخ سيدي بوعمامة )

بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله وسلم على سيدنا وحبيبنا محمد النبي الأمين وعلى آله وصحابته أجمين...

الشيخ بوعمامة بين الإقدام والإحجام

تحياتي لجميع القراء الكرام، من جميع الطوائف والانتماءات والقناعات، وبعد...

وعدناكم أننا سنعود للسلسلة العادية المتعلقة بمسيرة الشيخ بوعمامة بعدما قدمنا الحصتين الماضيتين اللتين كان لا بد منهما لوضع القارئ الكريم في المسار الصحيح من الموضوع، فعلى بركة الله...

وقفنا المرة الأخيرة أين أصرت ساكنة مغرار التحتية أو قلعة الشيخ بوعمامة كما تسمى اليوم، على الشيخ أن يلتحق بهم ويقيم معهم. وبعد استشارة واستخارة واستئذان، التحق بهم فعلا. كان قدومه في البداية أمرا عاديا كزيارة لأسلافه لا يثير كثير انتباه، باعتباره ينتمي للقبيلة، وباعتبار وجود ضريح جده سيدي براهيم هناك كما أسلفنا. غير أن الساكنة والقبائل المجاورة التي كانت تنتظر بفارغ الصبر من يأتي ليأخذ بيدها ما لبثت أن تجد فيه مبتغاها. وما هي إلا فترة قصيرة حتى استطاعوا أن يكونوا له زاوية بجميع معاييرها ليستقر بينهم. وكان أن توفى والده سيدي العربي في نفس الفترة، مما سهل عليه الإقامة...

كان الشيخ آنذاك بين تيارات متناقضة:

ـ فمن جهة،

ـ كانت حرقته على ما آلت إليه الأوضاع بسبب الاستعمار في البلد المسلم تمزق أوصاله...

ـ كما كان شوقه عاليا إلى إعادة الاعتبار للطريقة الشيخية التي كانت تمر بفترة انكماش، خصوصا بعدما تحصل على الاذن من

شيخيه المعنيين بالطريقة مباشرة... ـ وكان إلحاح الساكنة والقبائل المحيطة وحماسها على الجهاد من الأمور التي كانت تحفزه أكثر..

ـ وأما نداء الضمير الحي والواجب الشرعي لحمل لواء الجهاد، فكانا يجرانه جرا لحمل راية الجهاد.

وفي المقابل:

ـ كان علمه بما آلت إليه تجارب الثورات السابقة من الأمور التي كانت تقوض من عزيمته..

ـ وكان توغل العدو الفرنسي في أوساط القبائل والتحكم في رؤوسها، من الأمور المثبطة أيضا...

ـ وكانت محدودية المؤن وقلة الموارد، إضافة إلى الجفاف الذي استمر حينها على المنطقة لعدة سنوات متتالية من الأمور التي

كان يأخذها بعين الاعتبار بقوة...

ـ وكان يرى أن الحماس وحده لا يكفي، إذ لا بد للجيش من تدريب واكتساب التجربة قبل المواجهة.

ـ ومن الأمور التي كانت تقض مضجعه ويضرب لها ألف حساب كما يقال، احتمال أن الثورة إذا ما قام بها لا تروق للمخزن، لأن هذا

الأخير يرى أنها ستجلب عليه متاعب. وقد حصل هذا التوقع فعلا، إذا سرعان ما تدخل المخزن في بداية الثورة تحت ضغوط من فرنسا...

ـ إلى جانب حرصه على التخطيط على ضمان قنوات المدد من المؤن والأسلحة ووسائل التنقل.

وكان الشيخ يجد في هذه المسألة أكبر المتاعب بحكم الموقع الذي سينشط فيه. فلا هي ميسورة على مستوى الساحات المتوقعة للمعارك، لأن العدو حاكم قبضته على منافذها، ولا هي منظرة من جهة الجوار الذي لن يسمح بها لأنها ستسبب له متاعب ومضايقات من قبل المستعمر، ولا هناك أمامه منافذ بحرية أخرى قريبة، إذا تطلب الأمر أن يستوردها مما وراء البحر...

هكذا كانت وضعية الشيخ في تلك الفترات الصعبة قبل أن يتخذ القرار النهائي. أضف إلى ذلك هناك بساطة المجتمع التي كان فيه، لا من حيث الثقافة ولا من حيث التجربة ولا من حيث السعة في دراسة التوقعات، إلى جانب افتقاره للوسائط التي ينبغي أن تربطه بما وراء البحر وتطرح قضيته في المحافل الدولية..

ـ أما مسألة الإعلام، الذي كان يعتبره من أهم الوسائل، فقد كان منعدما أمامه بالمرة، اللهم إلا ما كان من بعض الشعراء، شأن

الشاعر محمد بلخير، الذين كانوا يأتون أحيانا ببعض القصائد الحماسية لرفع همم المجاهدين.

دام الشيخ بوعمامة في هذا المخاض بين الإقدام والإحجام لحوالي ست سنوات كاملة، وهو يعد ويستعد، يدرس ويعيد الدراسة، يجس هنا وهناك، ويقوم بتقييم ما بين يده من قوة ومن رباط الخيل..

ولم يلبث كثيرا حتى بدأت المضايقات من فرنسا تنهال عليه، بعدما كانت أعينها تجتهد في مراقبة حركاته وسكناته. وكان من لطف تقدير الله له، أن المقيم العام بالجزائر آنذاك، كان قد قرر أن زمان الثورات قد انتهى إلى غير رجعة، فلا داعي للتوجس منها، مما كان يخفف الوطء...

ورغم ذلك، فقد كثرت التقارير التي تفيد أن نفوذ الرجل يتنامى، وأن أتباعه يتزايدون، وأن وفود فقرائه ومقدميه تنتشر عبر البلاد، وأن تعلق الناس به بلغ مداه، وأن الخطورة محتملة جدا أن تأتي من طرفه، مما حدا بالمسؤولين على المنطقة بالتحرك.

فكان أن حاولوا القيام باغتياله أكثر من مرة، ثم أرسلوا له وحدة عسكرية لتلقي عليه القبض سنة 1878. غير أن العناية الربانية التي كانت ترافقه، جعلت أفراد تلك الوحدة الذين كان جلهم جزائريين، يقومون بعصيان تنفيذ أمر إلقاء القبض، باعتبارهم كانت لهم ارتباطات روحية بالشيخ....

كانت هذه الظروف الجد متوترة، والجد استثنائية، من الأمور الجد معقدة التي كان الشيخ يحاول أن يعالجها من جميع الجوانب قبل أن يقدم على سيقدم عليه. كانت هذه الدراسات المضبوطة، والتوقعات الدقيقة، والاحتياطات الواسعة، والاستعداد بمفهومه العميق إلى أقصى الحدود، كلها وسواها من الأمور التي كان الشيخ بوعمامة يعيدها أكثر من مرة في اليوم، إلى جانب اهتمامه بالشؤون العامة الأخرى مما يتعلق بمتطلبات المجتمع الخاص الذي أصبح يحيط به..

كيف عالج الشيخ جميع هذه المشاكل، وكيف تخطى جميع تلك العقبات، وما هي الخطوات التي قرر اتخاذها في النهاية، وما هي المآلات التي ترتبت عليها، ذلك ما سنتطرق إليه في الحصة القادمة إن شاء الله، فتابعونا مشكورين ومأجورين إن شاء الله...

أخوكم أحمد حاكمي.

06 - 06 -2021

موقع الطريقة الشيخية الشاذلية ( طريقة أسلاف بيضاء نقية )

Mise en ligne le 15/11/2004. Tariqa-Cheikhiyya© 2004