وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين..
وحتى تتضح الصورة
تحياتي لكم جميعا قراءنا الفضلاء بجميع أطيافه، أحييكم بتحية الإسلام المباركة الطيبة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته...
نواصل حصصنا المباركة التي تتعلق بموضوع الشيخ بوعمامة...
وصلنا في الحصة الماضية في اللحظة الحاسمة التي سيقرر فيها الشيخ بوعمامة مصيره الجهادي. وقد واعدت أن نسير على نفس النهج، وهو كذلك، غير أني ظهرت لي وقفة هامة رأيت أن اخصص لها حصة حتى تتضح بعض الأمور بالنسبة للقارئ العادي الذي لم يسبق له الاطلاع على هذا الموضوع الشائك...
أقول شائك لأن في شأنه اختلاف بين بني جلدته...
ـ فبينما نجد من الناس من يرى فيه البطل المغوار المجاهد، الذي ظل متوشحا سيفه إلى آخر رمق من حياته، لم يكل ولم يمل في مواجهة العدو الفرنسي مهما كانت الظروف، لم يعرف للتراجع لغة، ولم يفتح للتفاوض كوة، ولم يأمن للعدو جانبا، ولم يغفل عن أخذ الحيطة والحذر لحظة. كرس حياته كلها للجهاد في سبيل الله...
ـ نجد بعضا آخر من الناس يرى فيه أكثر من ذلك. فبينما يرى فيه كل ما رأت فيه الطائفة السابقة، يرى فيه إضافة أنه الرجل الصالح، الشيخ المربي للأجيال، صاحب الإذن في التربية والتسليك وبناء الأجيال...
ـ نجد العدو الفرنسي يرى فيه العدو الأبدي اللدود الذي لا يمكن استئمانه بحال من الأحول. فهو المرعب، وهو الخطير، وهو البربري الذي لا يتورع عن سفك الدماء، ولا يأمن له الفرنسي جانبا من الحياة...
ـ نجد طائفة أخرى من بني جلدته، تتماشى مع ما كتبت عنه الأعداء والمغرضون، وما أكثر ما كتبت، اعتقادا منها أنه الصواب، فتنسب له ما تنسب من الصفات التي ما أنزل الله بها من سلطان..
السؤال الكبير: لماذا جاءت الأخبار عن هذا الرجل إلى حد التناقض...
الجواب عن هذا السؤال الخطير في المتناول إذا ما أمعنا النظر، وتحلينا بالصدق، وتحرينا الصواب، وبحثنا عن الحقيقة، ولك نجعل من أنفسنا إمعة تدور به الرياح حيث دارت...
فإليكم المشهد كاملا:
ـ أولا:
الشيخ بوعمامة لم يقدر له أن يولد في أرض الجزائر، ولو قدر له ذلك، لما تنوعت حوله الآراء واختلفت، لأنه يكون مواطنا جزائريا بحتا، لا ينظر إليه إلا بنظرتين مختلفتين:
ـ النظرة الجزائرية الحرة التي تظل تمجده إلى أقصى الحدود كبطل استثنائي قلما يجود الزمان بمثله
ـ والنظرة الفرنسية الاستعمارية الاستعلائية، التي بدورها تظل تنظر إليه نظرة العدو اللدود، كما تنظر إلى جميع من كان يأبى أن يسكت عن الحق، ويرضى أن تجثم فرنسا بكلكلها على البلاد والعباد...
ـ ثانيا:
الشيخ بوعمامة لو قدر له أن يقوم بثورته ضد العدو الاستعماري بالمغرب، الفرنسي أو الاسباني، كما كان شأن الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، لظل يعد في أعين المغاربة من أعظم رجالات الجهاد، يقام ويقعد لمجرد ذكر اسمه...
ثالثا:
لست أدري أذلك من سوء طالع الرجل أو من حسن طالعه، أن قدر الله له أن يعيش كما عاش. ولعلم الأحباب فإن تلك الوضعية الاستثنائية جعلته يعيش بين عدة تيارات لا واحدا منها يرحمه، كما يلي:
ـ فهناك حسابات خاصة بينه وبين أصحاب الزعمات الأخرى التي كانت تنظر إليه بعين المنافسة..
ـ وهناك العدو الفرنسي الذي كان يبذل قصارى الجهد ليقضي عليه، أو ليشوه صورته على الأقل لينفر الناس منه...
ـ رابعا:
وهناك قبائل المنطقة الحدودية للمغرب التي كانت تضطهده وتستثقل وجوده، لكونه في نظرها يجر عليها نقمة وويلات المستعمر...
ـ خامسا، وهو الأهم:
هناك المخزن المغربي الذي كان في أقصى حالات الضعف كما يحكي مؤرخوه، وكان تحت ضغط وتهديد العدو الفرنسي، وكان يضغط بقوة على ورقة الشيخ بوعمامة، باعتباره في نظرها مواطن مغربي كما كانت تصرح في الكثير من تقاريرها..
هذه أهم الأطراف، إذا ما اكتفينا بها، بصرف النظر عن الأطراف الخفية من دول الاستعمار التي كانت تتزاحم للحصول على نصيبها من كعكة الرجل المريض...
وحتى تتضح الصورة أكثر، سأوجز لكم مسيرته المباركة في خطوط عريضة:
1ـ في الظروف التي رأينا أسس زاويته الأولى بمغرار سنة 1875، حيث بدأ الاستعداد...
2ـ بداية من أبريل 1881 بدأت ثورته المباركة...
3ـ دامت الفترة القوية منها حوالي سنتين إلى منتصف 1883..
4ـ في سنة 1883 اضطر للرجوع لأرض المغرب، هنا بدأت عيله الضغوط من بني العمومة، لأن قبائل المنطقة صارت تنظر إليه بعين الخطر بأنه سيجر عليها أطماع المستعمر...
5ـ كانت هناك جملة من المراسلات بين قبائل المنطقة والمخزن المغربي في الموضوع...
6ـ أصدر السلطان أوامر صارمة بطرد الشيخ من المنطقة وعدم موالاته بأي وجه من الوجوه...
7ـ تحت الضغوط الشديدة من كل جانب، اضطر الشيخ إلى اللجوء إلى إقليم توات...
8ـ مكث هناك حوالي عشر سنين، أعاد فيها الزاوية وكون لفيفا كبيرا من قبائل المنطقة...
9ـ بايعته هناك حوالي خمسين قبيلة إضافة إلى شيخ المنطقة السيد العربي المدغري. وللتذكير فإن وثائق مبايعة تلك القبائل للشيخ قد أدرجتها في الكتاب الأول من سلسلة التعريف به...
10ـ تكونت هناك علاقة جد طيبة بين الشيخ وبين نائب السلطان على الإقليم مولاي رشيد...
11ـ حضي الشيخ هناك بتقدير خاص من كافة أجهزة الجولة حتى صار يلقب: محبوب الجميع...
12ـ كان الشيخ بوعمامة يقوم بأدوار هامة هناك لفائدة المخزن، بما فيها نقل البريد إلى حدود عين صالح، إلى جانب تموين المخزن بين الفينة والأخرى. ويكفي أنه في إحدى المراسلات طلب منه المخزن أن يرسل لهم 1200 جملا لنقل حمولات الجيش...
13ـ كانت هناك علاقة جد طيبة بين السلطان والشيخ بوعمامة، حيث كان هذا الأخير يبعث له بهدايا سنوية..
14ـ تضعضع الوضع بشدة بمنطقة الحدود، فأذن السلطان للشيخ في مطلع تسعينات القرن التاسع عشر أن يعود للمنطقة، للعمل على تعطيل أطماع العدو في افتراس المنطقة..
15ـ استجاب الشيخ لأمر السلطان، فبدأ عودته بخطى ثابتة ومحسوبة توقعا لما قد يطرأ من مفاجآت
16ـ ما إن بلغ الشيخ المنطقة حتى جاء خبر وفاة السلطان الحسن الأول، صاحب الشخصية القوية..
17ـ تلك الوفاة لا زالت مشبوهة لحد الآن، مع العلم بأنها تبعتها بعثرة في جميع أرواق العرش...
18ـ اغتنمت فرنسا فرصة وفاة السلطان، فحكمت بقبضة من حديد مقاليد البلاط، وغيرت نظرة وموقف المخزن بالكامل ضد الشيخ بوعمامة، حيث صار عدوا منذئذ...
19ـ توالت الضغوط على الشيخ آنذاك من جميع الجهات، وصار يتنقل في تلك المناطق لعدة سنوات في استراتيجية حربية أملتها الظروف...
20ـ قررت فرنسا تعيين الطاغية ليوطي في مهمة القضاء على الشيخ، فزاد عليه مماراسة الضغوط بسياسته الماكرة..
21ـ صار الشيخ يمثل ورقة ضغط سياسية هامة بين فرنسا والمخزن. فحينما كان يلين للمخزن، وذلك في أغلب الأحيان، كانت فرنسا تلعب عليه كورقة ضغط عالية ضد المخزن. وحينما كانت فرنسا تحاول استمالته، كان المخزن يزيد عليه ضغوطا. أما هو في الحقيقة فكانت له مواقف شخصية واضحة، تدور مع الأحداث حيث دارت، مراعاة لمصاله بما يمليه عليه الشرع...
22ـ لم يجد الشيخ بدا من أن يبحث عن مخرج لوضعيته المستعصية، فقرر أن يتوجه نحو الشمال للابتعاد من ضغوط القبائل وضغوط ليوطي...
23ـ لعلكم تتصورون الظروف الجد استثنائية التي كان يعيش من ضغوط وقلة موارد العيش وقلة التموين بموارد الدفاع عن النفس..
24ـ ظهر في تلك الفترة من يسمى بوحمارة في منطقة وجدة، الذي كانت الأحداث في بداية الأمر تجري لصالحه ضد المخزن، فقيل زورا أن الشيخ بوعمامة قد انضم إليه، بينما كانت الهوة بينهما واسعة. ومن أراد أن يتحقق من الموضوع فليرجع إلى كتابي:
الشيخ بوعمامة، الكياسة والتدبير السياسي. فقد تناولت فيه تفاصيل هذه الأحداث
25ـ تم اللعب على تفكير ابنه السيد الطيب بطريقة أو أخرى، فقرر هذا الأخير أن ينضم إلى المخزن لجعل حد للوضع. وبعدما تم الترحيب به واستقباله كشخصية بارزة بما في ذلك أطلاق 21 طلقة نارية، غدروا به وألقوه في غياهب السجون..
26ـ اغتنمت فرنسا الفرصة فلعبت عليه كورقة سياسية من وجهين: الأولى ضد المخزن المغربي لتشويه صورته أمام الشيخ أكثر حتى يزيد منه نفورا، والثانية، ضد الشيخ نفسه بعدما جعلت ابنه السيد الطيب في إقامة جبرية في مدينة الأغواط، وبدأت تساومه عليه...
27ـ كان رد الشيخ بوعمامة قاطعا وحاسما بخصوص المساوة حيث قال: فليقتلوه، وليحرقوه وليذروا غباره في الهواء، بالنسبة لي لا أمان ولا مساومة ولا تفاوض ولا ليونة تجاه العدو. فإذا ما قتلوا الطيب، فإنما يقتلوه شهيدا وهذا ما أتمنى له...
28ـ وأخيرا أنقل لكم المقولة المشهورة عنه:
إذا سمعتم الرصاص يرن في قبري، فاعلموا أني لا زلت في حرب ضد فرنسا...
كانت هذه هي صورة كلية مصغرة، كما عاشها الشيخ للمدة ما بين من 1875إلى 1908...
والآن أترك لكم صلاحية إعادة النظر في شأن الرجل، مع المراعاة لظروفه ومواقفه الثابتة..
فقد ظل شامخا في وجه الاستعمار، وقد ظل موقفه في غاية الحذر، علما منه بجوانب الضعف التي يعاني منها المخزن. فهو قد ظل وفيا للبيعة التي في عنقه كما فعلهم قبله الأمير عبد القادر، وهم الذين يعرفون للبيعة الشرعية معنى، وما أدلة ذلك أن تأخذوا بعين الاعتبار استجابته لأمر السلطان حينما عاد لمنطقة الغليان والنار رغم ما فيها من مخاطر، وموقف المخزن منه بعد وفاة السلطان الحسن الأول، وما نتج على ذلك من تغييرات في الأحداث والمواقف...
على أن هذه الصورة لا تكتمل أمام القارئ إلا بالتعريج على بعض ما كتب عنه من هذا الطرف أو ذاك، وهي الحصة الاستثنائية المقبلة، لنعود بعدها إلى السلسلة العادية التي بها بدأنا إن شاء الله...
أخوكم أحمد حاكمي.
04 -06 - 2021